قال رسول الله (ص) : (يا معشر المسلمين, إن أفضل الهدي هدى محمد , وخير الحديث كتاب الله, وشر الأمور محدثاتها , ألا وكل بدعة ضلالة , ألا وكل ضلالة ففي النار)(أمالي الشيخ المفيد ص188)
..........................................................
عدّ النواصب أو بعضهم المراسم الحسينية بدعة , بل هي من أعظم الحرمات, وقالوا إن على محبي الحسين (ع) وأهل بيته الصبر والاسترجاع دون إظهار مراسم العزاء والنياحة عليه,وتسائل عن هذا الاهتمام البالغ والتكريس الكبير لاعادة الذكرى العاشورائية وقال بعضهم: لو وجب ذلك لكان التفجّع وإقامة المآتم على أبيه علي(ع) اوجب لأفضليته عليه. كما عدّ بعض المخالفين ان في اعادة الذكرى تعميق للخلاف بين السنة والشيعة وسبب لبغض الصحابة.
وللإجابة على هذه الإشكالات لابد لنا أولا أن نقف على معنى البدعة . وعلى ضوء معرفتنا نعرف حكم المراسم الحسينية .
معنى البدعة لغة اصطلاحا:
البدعة مصدر بدع بمعنى أنشأ وبدأ ، والبدع : الشئ الذي يكون أولا كما في لسان العرب ، وأبدعت الشئ قولا أو فعلا إذا ابتدأته لا عن سياق مثال كما في مقاييس اللغة . هذا هو المعنى اللغوي للبدعة ، وأما معناها في مصطلح الفقهاء فهي عبارة عن : إدخال ما ليس من الدين في الدين . وعد ما ليس منه ، منه . وليس بين المسلمين أحد يتفوه بجوازهما لإطباق الأدلة الأربعة على حرمتها . وإلى هذا المعنى المصطلح يشير صاحب القاموس ويقول : البدعة الحدث في الدين بعد الإكمال ، أو ما استحدث في الدين بعد النبي من الأهواء والأعمال ولتوضيح معناها الشرعي أقول :
أن الأعمال التي يقوم بها الناس على ضربين:
الأول: ما يقوم به الإنسان على انه جزء من تقاليد مجتمعه لا انه جزء من الدين بشرط أن لا يكون محتويا على عناوين محرمة في الشريعة الإسلامية . فمثلا لو احتفل العراقيون بذكرى مرور مائة عام على ثورة العشرين التي هبَّ حينها أبناء العشائر العراقية لمقاومة الاحتلال الانكليزي الذي احتل العراق ونهب ثرواته. ويكون هذا الاحتفال مجردا عن ما يخالف تعاليم الإسلام وآدابه كالرقص والاختلاط وشرب الخمر بل يقتصر على إعادة فصول الذكرى بالأشعار والخطب الحماسية والترحم على الثائرين والوقوف على ما أسسوه وما خلدوا به . وذلك لبعث روح الحماس والتضحية والفداء والإباء والوقوف أمام كل من يريد احتلال أرضه أو التعدي على مقدساته. فاحتفال كهذا لا يعد بدعة في الدين لأن المحتفلين لم يحتفلوا بناءً على أنها جزء من الدين. بل من التقاليد التي جرى عليها آبائهم وأجدادهم , وأنهم احتفلوا بهذه الذكرى لما تعمل على تنمية روح التضحية والعمل على دفعهم لاقتفاء اثر أجدادهم في هذا العمل البطولي. نعم قد تكون بدعة بالمعنى اللغوي لأنه أمر محدث جديد لم يعمل به من قبل . لكنه خارج عن معنى البدعة الاصطلاحي . وهكذا كل العادات والتقاليد التي جرى عليها الآباء والأجداد بشرط عدم احتوائها على عناوين محرمة.
لقد ترك الإسلام للمجتمعات الرسوم والتقاليد والأعراف ولم يتدخل بها ما دامت لم تتعارض مع الحكم الشرعي .
الثاني: ما يقوم به الإنسان على انه جزء من الدين وأن الشارع أمر به في الكتاب والسنة . فالعمل الذي أمرنا الشارع المقدس به يعد مشروعا والعامل به مثابا مأجورا. أما إذا لم يكن هناك نص من الشارع على الإتيان به بما انه من الدين عُدَّ عملا بدعيا والعامل به مبتدعا ويعاقب عليه اشد العقاب.
ولكن يأتي النص مرة بالحدود والتفاصيل والجزئيات ومرة على الوجه الكلي ويترك تحديد أساليبه وأشكاله إلى الظروف والمقتضيات . فمرة يأتي الأمر بالاحتفال بعيدي الأضحى والفطر والاجتماع في عرفة ومنى بالحدود والتفاصيل والجزئيات . ومرة يندب إلى تعليم الأولاد ومكافحة الجهل الأمية ولا يأتي بتفاصيل ذلك بل تركه إلى الظروف والأزمان وتبدل الحضارات . فكان التعليم سابقا مقتصرا في الكتابة على الألواح والقصب وغيرها من الآليات البسيطة . ولكن بتطور الحضارات وتقدم العلوم أصبح التعليم متطورا كما أن آليات التعليم وطرقها تطورت أيضا كالتلفاز والكمبيوتر والانترنت . فالمشرع أمر بالتعليم وترك اتخاذ الأساليب إلى الظروف والمقتضيات .
ولو اصر الشارع الإسلامي على اتخاذ كيفية خاصة في التعليم مثلا لفشل في تحقيق هدفه ولفقد مبررات خلوده واستمراره.
ومثال آخر لقد حثَّ الإسلام على الإحسان إلى اليتامى والتحنُّن عليهم وحفظ أموالهم وتربيتهم . ولكن بشكل كلي فلم يخض في الجزئيات بل ترك اختيار ذلك لمقتضيات الزمان والمكان, بشرط أن تكون الأساليب متوافقة مع تعاليم الإسلام وأحكامه.
مثال آخر : الشارع أمرنا برفع أصواتنا في الأذان في الجوامع لإعلام الناس بوقت الصلاة . ولكن ترك لنا اتخاذ الوسائل الموصلة إلى الظروف والمقتضيات .
ومثال آخر أيضا: فيما يتعلق بالدفاع عن بيضة الإسلام وصدِّ العدوان عن الوطن . فالقران أمرنا بذلك بشكل كلي فقال (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)(سورة الانفال اية 60) وأما كيفية الدفاع ونوعية السلاح فهو متروك لتطور الزمان والحضارات . فاستعمال الصواريخ والطائرات الحربية وغيرها يدخل تحت عنوان (القوة) . وهكذا أمرنا الله عز وجل بحج بيته الحرام ولكنه ترك لنا اختيار الوسيلة الموصلة إلى بيته المعظم مشيا على الأقدام أو بالسفن أو بالسيارة أو بالقطار أو بالطائرة.
لقد ترك الإسلام للأمم عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم التي تتفق معه كما ترك لهم اختيار الأساليب والوسائل لتأدية ما أمرهم به دون أن يتدخل بذلك . وهذا دليل مرونته التي لولاها لبقي حبيسا في داره .
ومثال آخر : إقامة المواليد وإعادة ذكرى وفاة الأنبياء واستشهاد المعصومين من أهل البيت (ع) فان البعض يعتبر ذلك من البدع ؟! والحال أن الاحتفال بذكرى ولادتهم أو استشهادهم إنما هو تعبير عن الولاء العميق والمودة الخالصة لهم .
الاحتفال بمواليد الأنبياء والأئمة والصالحين الذين لهج الكتاب والسنة بمدحهم ، وفضلهم من هذه الأعراف والمراسم التي لا يعارضها الإسلام ، فليس لنا رميها بصفة " البدعة " لما عرفت من أن البدعة هو العمل الذي لم يرد بشأنه نص في الكتاب والسنة ، ويؤتى به على أساس أنه من الدين . فقد أمر الكتاب والسنة بحب النبي ووده أولا ، وتوقيره وتكريمه ثانيا وحث عليهما في الشريعة وستتعرف على دلائل لزوم حبه كما ستتعرف على لزوم تكريمه وتوقيره . وعلى ذلك فلو احتفل المسلمون منذ قرون ولا يعلم مبدأ تلك الاحتفالات إلا الله سبحانه ، فإنهم لم يريدوا بفعلهم ذلك أن يدخلوا في الدين ما ليس منه بل أرادوا أن يعبروا عن حبهم ووفائهم للنبي (ص)ويجسدوا توقيرهم وتكرمهم له . وبذلك تقف على قيمة قول الكاتب المعاصر محمد حامد الفقي حين يقول في تعاليقه على فتح المجيد : الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم وكيف أنه قد تجافى عن الحقيقة في قولته هذه . فقد عرفت أن الوارد في الأدلة هو الأصول ، وأما الصور والأشكال فموكولة إلى الأزمنة واختلاف الحضارات والأعراف ، وهو أمر جار في مسألة الاحتفال بمواليد الأنبياء والأئمة الكرام ، فإن الكتاب والسنة حث على أصل الحب والمودة لهم وترك بيان نوعية التعبير عن هذه المودة والحب ، ليقوم كل بإظهار هذا الحب والود ، والقيام بهذا التوقير والتعزير بطريقته المتبعة ما لم يكن العمل الذي يقوم في هذا المضمار حراما بذاته أو مقرونا بأمر حرام . والعجب أن نسمع بعض الإذاعات - رغم وضوح هذا الأصل - وهي تنقل أحاديث بعض العلماء وهم يهاجمون الاحتفال بمولد رسول الله(ص) ويشجبونه ، لا بما أنه يشتمل على محرم أو منكر ، بل لعد نفس العمل بدعة فتنتابنا الدهشة كيف لا يفرق هؤلاء بين " البدعة " و " السنة " ، وهل التظاهر بمحبة النبي ، وإبداء مودته في ممارسات مباحة ذاتا بدعة ؟ ! أو أن توقيره وتكريمه وترفيعه إثم ، وقد حث عليهما الكتاب والسنة ؟ وبعبارة واضحة : إن ما يقوم به المسلمون في مولد النبي الأكرم(ص) إنما هو تجسيد لأصلين دعا إليهما الذكر الحكيم :
1 - حب النبي ومودته التي دلت عليها آيات وأحاديث سنذكر بعضا منها إنشاء الله .
2 - تعزيره وتوقيره وتكريمه الذي دل عليه قوله سبحانه : ( . . . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون )(الاعراف اية 157)وقد فُسِّر التعزيرُ ، بالتكريم والتوقير . والعمل الذي له أصل في الكتاب والسنة ، لا يعد بدعة وإن أتي به باسم الدين ، لأنه لم يُدخل فيه شيئا ليس فيه ، أما الأصل فموجود ، وأما الصورة فهي متروكة لكل عصر حسب متطلباته . فما معنى عد هذه الاحتفالات التي هي تجسيد صادق للأصول الكلية الواردة ، في الكتاب والسنة من البدعة ؟ أوليست البدعة هي أن يؤتى بشئ باسم الشرع وليس هو من الشرع ؟ أوليس القرآن والسنة قد حثا على حب النبي(ص) كما ستعرف ذلك على نحو التفصيل ؟ أوليس القرآن يقول ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )( سورة المائدة اية 56) . أوليس القرآن يقول : ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون )(الاعراف 157). أوليس الاحتفال تجسيدا للحب والود ، أو للتعزير الذي هو بمعنى التكريم والتوقير ؟ ! ألا تكفي هذه الأوامر الكلية . وهل ينتظر الذين يهاجمون هذه الاحتفالات بحجة أنها بدعة ويتوقعون أن ينص الشرع على جميع المصاديق والجزئيات للمفاهيم الكلية ؟ أليست وظيفة الشرع هي إلقاء الأصول وعلى المسلمين أن يقوموا بالتطبيقات ؟
إضافة إلى أن المحتفلين بذكرى ولادة النبي (ص) بذكر فضائله وخصائصه يسير على نهج القران الذي ذكر خصائصه (ص) فقال (يا ايها النبي انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا ونذيرا)(الاحزاب 45, 46) وهكذا نراه جل وعلا عندما تحدث عن بقية الأنبياء فما تكلم عن شخصهم ومزاياهم الشخصية بل اخذ يؤكد على الأدوار الرسالية التي قاموا بها حين دعوتهم إلى الله سبحانه . فهل الإتيان بشيء موجود أصله في القران وان أُتي به باسم الدين من البدعة؟
إذن فإحياء هذه المناسبات وخاصة فيما يتعلق بأهل البيت (ع) قد جاء النص من القران عليها كالآية المباركة ( قل لا اسالكم عليه اجر الا المودة في القربى ) فالآية أمرتنا أن نود أهل بيت النبي (ص) ولم تحدد كيفية وطرق التعبير عنه فالآية جاءت بأمر كلي وتركت لنا تحديد المظاهر وما القيام بعقد مجالس ذكر فضائلهم وعطائهم الذي لا ينضب والاستفادة من علومهم وسيرتهم ومواقفهم وسرد مصائبهم وإظهار ظلامتهم إلا مظاهر الود والاحترام لهم عليهم أفضل الصلاة والسلام .
والمتتبع للأحاديث والروايات عن النبي واله (ع) يجد أنهم حثُّوا المسلمين على ذكر مصائبهم وما مروا به من ظلم وتعدي وذكر مواقفهم أمام طواغيت عصرهم ذلك لنستلهم منهم أسمى معاني الفداء وقوة الإرادة ولنتعلم كيف نقف بوجه الظالمين وان نعي معنى الموت في سبيل المبدأ . وخاصة مصيبة كربلاء والمسيرة الحسينية لما تحتوي على الدروس والعبر . فلم تكن ثورة الحسين(ع)ثورة شخص على شخص وإنما ثورة منهج مستقيم على منهج منحرف كما لم يكن الخلاف بين علي (ع) ومعاوية خلافا شخصيا بل خلاف بين مبدأين وخطين ومنهجين . فلم يكن إحياء المراسم العاشورائية شيئا بدعيا لورود النصوص فيها من القران وأهل البيت (ع), بل البدعة في ترك أقوالهم والصد